الجمعة، 8 أغسطس 2014

الشاعر السوري ياسر خنجر: حاولتُ أن أكون حاضراً في حلم الحريّة قدر حضوره فيّ





قبل بداية الثورة السورية ضد نظام الأسد الابن، كان كثيرُ من السوريين لا يعرف عن الجولان سوى أنه مُحتل من قبل الكيان الصهيوني، حتّى أنهم لم يعرفوا أنها "بيعت" لإسرائيل من قبل الأسد الأب، وأن المقاومة الفعلية لهذه "البيعة" المزدوجة كانت من قبل سكانها فقط بعيداً عن "بعبعة" إعلام النظام السوري. 

فتحت الثورة المجال واسعاً أمام السوريين للتعبير عن توقهم للحرية بمختلف الوسائل، بدءاً من مخيلة الأطفال في درعا وصولاً إلى مخيلة الشعراء والمغنين والرسامين، في محاكاةٍ للدم الذي بُذل، ولا زال يُبذل. 

ياسر خنجر، من مواليد قرية مجدل شمس 1977، حُكم عليه بالأسر مرّتين، وبالنضال مرّتين، وبالشعر مرّاتٍ كثيرة. درس لغات وحضارات الشرق الأوسط القديم عام 2004 في جامعة القدس في أعقاب خرروجه من الاعتقال الأول. أصدر حتى الآن ثلاث مجموعات شعرية كتب قسماً كبيراً من قصائدها داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي؛ طائر الحرية 2003، سؤال على حافة القيامة 2008، والسحابة بظهرها المحني 2014.


- لا توجد لدى السوريين، والمنطقة عامة، فكرة عن الأدب الجولاني، إن صحَّ التعبير، ولا سيّما الشِّعر، هل يمكنك تقديم نبذة مختصرة عن هذا الأدب، وما الأسباب التي منعت أو حدّت من انتشاره برأيك؟ 


لا أعتقد أنّ الأدب في الجولان استطاع -أو كان بإمكانه- التأسيس لهوية أدبية خاصّة تمكّننا من إطلاق تسمية الأدب الجولاني عليها، فالهوية في الأدب تحتاج إلى تراكم يحمل خصوصية معينة فرغت منها الساحة الجولانية، وذلك على العكس من الحالة السياسية هنا، والتي استطاعت التأسيس لدورها من خلال عدّة نقاط أهمها صراعنا اللاعنفي ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي من خلال مشروع رفضنا للجنسية الإسرائيلية وما شهدته سنوات الثمانينات الأولى من إضرابات وكل مظاهر التصدي لضم الجولان إلى دولة الاحتلال.

مع الأسف لم يكن الأدب حاضراً في الجولان قدر حضور الفعل السياسي النضالي، وبهذا خسرنا القدرة على توثيق قضيتنا في أدب وفن يستطيع إثبات حضوره وأن يحمل هوية خاصة.

في مجتمع صغير لم يخرج من حالة القرية بما فيها من زراعة ورعي إلى حالة المدينة إلّا بعد سنوات طويلة من عمر الاحتلال، كانت الفنون جميعها خارج أولوياته، وهذا لا يعني غيابها، إنّما تأخّرها في تثبيت حضورها كمقوِّم من مقوّمات الحياة الثقافية، وفي ظل غياب كامل للدولة السورية في حياتنا الثقافية، الأدبية والفنية، والتي احتكر نظامها لكل أشكال العلاقة مع الجولان إلا في استثناءات نادرة، كانت فلسطين بديلاً قادراً على خلق جسور الترابط بحكم التشابه في التجربة. 

توجد في الجولان عدد من المؤسسات الثقافية التي استطاعت أن تثبت حضورها في الساحتين السورية والفلسطينية، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، مركز فاتح المُدرّس للفنون والثقافة. 


- هل يمكنك التحدث قليلاً عن الدور الذي قمت به على صعيد دعم الثورة السورية ضد نظام الأسد في الجولان المحتل، بهدف تسليط الضوء على الحراك هناك. 


لم يختصر حكم الأسد في نظامه السلطوي حياة الناس المقيمين في سوريا فقط، بل طال نظامه حياة السوريين المقيمين خارج حدود الدولة، ومن بينهم المقيمون قسراً تحت حكم الاحتلال، فاحتكر العلاقة معهم بخطابٍ مُفرغ من كل أشكال المواطنة ومقوّماتها الذهنية والمعيشية. وفي الجولان لم تكن الهوية السورية قبل الثورة تجسيداً فعلياً للمعيشي من حياتنا، إنما اقتصرت على كونها موروثة بحكم التاريخ والجغرافيا فقط، فكانت سوريا الأسد تسطو على الوطن، والمواطنة تبعيّةٌ لهذا النظام، لذا أعتقد أن أفضل ما يُمكننا تقديمه للثورة السورية هو تعرية خطاب الأسد الزائف في رفع صوتنا من داخل الأرض المحتلة في أننا نرفض كلّ ظلم ولا نقبل مسوّغات النظام ومبرراته التي يشرّع لنفسه من خلالها السطو على تفاصيل الحياة السورية بحجة وجود الاحتلال كاستثناء لم يُقدم نظام الأسد أي دعم حقيقي لمواجهته، أما بعد الثورة فقد صارت سوريا وطناً مليئاً بالتفاصيل ومشروع حرية.

عند انطلاق الثورة في سوريا كان عددٌ لا بأس به من صبايا وشباب الجولان قد وجد فيها تلبيةً لطموح حريّته الشخصي تماماً كما هي طموح الشعب السوري للتحرر، وقد وقّع أكثر من 84 مواطناً سورياً من الجولان المحتل بياناً بتاريخ 25 آذار 2011 حمل عنوان "أنتم الصوت ونحن صداه" جاء فيه: 

"ولأننا جزء لا يتجزأ مِن وطننا السوري ونسيجه الاجتماعي، لنا ما له وعلينا ما عليه، نعتقد جازمين أن الوضع السوري لا يشكل استثناء عن مثيله العربي، وأنه الأجدر بالحرية ونفض غبار الذل والإرهاب الذي يُمارس بحقه، معلنين أن كل مَن يعتدي على شعبنا السوري، قتلاً أو بطشاً أو اعتقالاً أو تعذيباً أو تشريداً أو نهباً هو بمثابة عدوّ، لا يختلف عن الاحتلال الإسرائيلي قيد أنملة، كائنا مَن كان هذا الأحد! وجودنا تحت الاحتلال الإسرائيلي ليس معناه بأي حال وقوفنا على الحياد. إننا في مطلق الأحوال امتداد طبيعي وحتمي لشعبنا السوري، ولشرائح واسعة منه، تعتبر أنّ استمرار الوضع الراهن وتكريسه أمراً واقعاً، كان له كل الأثر في الوصول إلى الحضيض الذي نحن فيه، وأنّ إسرائيل كانت المستفيد الأكبر من كل ذلك. إن واجبنا الوطني والإنساني والأخلاقي يحتم علينا الانحياز الكامل لشعبنا ضد جلاديه، وأن نكون صدىً صدّاحاً لصوته."

ثم أعلن المناضل وئام عماشة المعتقل في السجون الإسرائيلية إضراباً مفتوحاً عن الطعام وهو داخل السجن تضامناً مع ثورة الشعب السوري وقال في بيان هرّبه من زنزانته "غداً الرابع والعشرين من أيار، أعلن ومن داخل زنزانتي في السجون الإسرائيلية الإضراب عن الطعام احتجاجاً على ما يمارسه النظام السوري من اعتقال تعسفي وسفك دماء السوريين العُزل وصل حد المجازر الجماعية. وتضامناً مع المحتجين ودعماً لمطالبهم بالحرية والكرامة الوطنية وذلك انطلاقاً من قناعتي الراسخة بأن الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية والانتقال السلمي للسلطة وبناء الدولة المدنية الحديثة لهي أهم توازن استراتيجي يمكن أن تحدثه سوريا على الإطلاق في مواجهة تحديات العصر، وفي مواجهة العربدة والبطش الإسرائيلي لاستعادة الأراضي العربية المحتلة."

شارك عدد من ناشطي الجولان السياسيين في مؤتمرات المعارضة وكان لهم دور في التأكيد على مساندة شريحة من أبناء الجولان للثورة السورية وأنهم يجدون في الخلاص من الديكتاتور المجرم طريقاً واضحاً للحرية، وأيضاً شهد الجولان العديد من الاعتصامات والمظاهرات المساندة لثورة الشعب السوري تعرّضت في كثير من المرات لاعتداءات شبيحة النظام، ومن ضمن هذه الاعتداءات كان مهاجمتهم لحملة إغاثة اللاجئين السوريين، اعتداءات كثيرة تعرض لها السجين المحرر وئام وأسرته، اعتداء بالهراوات الحديدية على المظاهرات المساندة للثورة، وغيرها الكثير. 

في السياق ذاته تم تشكيل مجموعة عمل لمتابعة الثورة وإمكانيات دعمها ميدانياً من خلال التظاهر والاعتصام أُطلق عليها اسم "صدى الثورة السورية في الجولان المحتل." إضافةً إلى ذلك قامت مجموعة من الناشطين السياسيين بتشكيل التيار الوطني الديمقراطي كجهة سياسية منظَّمة تدعم الثورة وتواكب تطوراتها السياسية.


- أنت أسير سابق لدى سلطات الاحتلال أيضاً وكان لك دور في النضال ضدها، وكتبت قصائد في المرحلتين، أي قبل الثورة السورية وبعدها، ما الفروقات التي وجدتها من حيث الموضوع المطروح في القصيدة والجمهور المستهدف؟ 


الحرية باعتقادي غاية قصوى، أما الشِّعر، أو الفنون بأشكالها، فهي صيغة الشعراء والفنانين للتعبير عن هذه الغاية التي تشغلني في كل ما أكتب، والسجن هو النقيض الجسدي والحسّي المباشر للحريّة، حيث يُفترض بكلّ ما فيه أن يُؤكّد على استلابها فيزيائياً فتأخذ الكتابة في السجن -ومنه- نوعاً من التحدي لإثبات حضورها، ومن خلال الكتابة أيضاً حاولتُ أن أكون حاضراً في حلم الحريّة قدر حضوره فيّ.

قلتُ في حديث سابق مع جريدة العرب اللندنية إنّي "سُجِنت في إسرائيل مرّتين.. الأولى لمدة سبعة سنوات ونصف والثانية أحد عشر شهراً. أستطيع التمييز بشكل واضح بين المرّتين من خلال اللغة التي كتبتُ بها. لغة الشّعر في سجني الأوّل كانت حالمةً أكثر، أقرب إلى التعميم، متماشية مع مرحلة ما قبل الثورة السورية حيث المواربة سمة عامّة. أما في سجني الثاني وبعد أن وجدَت اللحظة السورية طريقها إلى لفظ الحقيقة بشكلها العاري، مجرّدة من كل أشكال الاستعارة، صار على اللغة أن تُحاول في القصيدة أو تطمح لأن تكون تعبيراً عن مساحة روحية وفكرية أعيشها بارتباط وثيق مع مساحة الرغبة السورية بالتحرّر وضرورتها، فحاولت أن أنقل علاقتي مع الثورة السورية وأثرها عليّ، فكتبت من زنزانتي في سجون الاحتلال الإسرائيلي عن أصدقاء لي في زنزانة في سجون النظام الأسدي، وكتبت عن شهداء تعجّلتهم فأس الحطّاب، عن الخذلان الذي يكسرنا، عن يأسٍ لا يهزمنا وعن أملٍ لا بد لنا من الاحتفاظ به كي نواصل المسير إلى الحرية." 


- نال معتقلو الرأي في مجموعتك الشعرية الأخيرة "السحابة بظهرها المحني" اهتماماً واضحاً، لماذا؟


مجموعة "السحابة بظهرها المحني" التي صدرت عن دار راية للنشر والترجمة في مدينة حيفا الفلسطينية، تحمل جزءاً كبيراً من علاقتي مع الثورة السورية في بُعدها الإنساني أولاً وتأثيرها عليّ، بحكم أن الثمن الذي يدفعه السوريون في سبيل الوصول إلى الحرية باهظٌ جداً ويفوق التصوّرات في شدّة بشاعته، ومع هذا يتجاوزون مأساتهم ويواصلون المضي إلى ما يجعل الحياة ممكنةً في واقعٍ حرّ. والشعر في هذا السياق محكومٌ بمدى قربه من هموم الناس ومن القضية الإنسانية، كلما ابتعد عنها كلما قلّ الرهان عليه واضمحلّت قدرته على الحضور، وأعتقد أن هذا الفيض من الدم الذي يجتاح سوريا يفرض حضوره في الحياة السورية قبل الشعر وبعده، ومثلما على الشعر، وكلّ فنّ، أن يحتفي بالحرية في التأسيس لحضوره، علينا أن نكون أوفياءً لكلّ الذين بذلوا حياتهم في التأسيس لصبح الحرية كحدٍ أدنى للتأكيد على جدارتنا بها. من هنا كان للمعتقلين كصوت من أصوات مناداتنا بالحرية حضورهم في مجموعة السحابة بظهرها المحني، إضافة لأن لي تجربة مع السجن والاعتقال فقد وجدتُ ما يربطني بشكل شخصيّ مع قضية المعتقلين ومع رفاقي في زنازين الأسد. كتبتُ عن معتقلي الرأي لأنّهم بعض الضوء الذي نبحث عنه في سوريا.

من زنزانةٍ في السجون الإسرائيلية هجستُ برفاقي في زنازين الأسد: أعرف أنّ ما تتعرّضون له من عذابٍ يفوق ما نتعرّض له بأضعاف مضاعفة؛ فكانت قصيدة "بين زنزانتين" -التي أهديتها إلى مازن درويش وكل معتقلي الرأي في سجون الطغاة- واحدةً من أقرب القصائد إليّ وتأكيداً على أن "للسجناء هُنا وهُناكَ/ قلبٌ واحدٌ/ يثملُ في وحي الانعتاق."


- كيف يمكن للشاعر أن يتحدّث عن الحبّ وسط ما يجري من انتهاكات بحقّ الإنسان من تشريد واعتقالات ومجازر؟ 


الشِّعر باعتقادي انتصارٌ للحياة، والحبّ في الحياة انتصارٌ على الموت. الكتابة وجهٌ من أوجه التأريخ الحسّي واللفظي لانعكاسات الواقع وأثره في نفسية الكاتب، نحن نكتب ما يشغلنا ويؤرّقنا في محاولةٍ لتسليط الضوء على هذه الجوانب من الحياة، كلّ ما يفرض حضوره في وقتنا يجد انعكاسه في الكتابة.

الحبّ حاضرٌ في تفاصيل حياتنا كنقيضٍ للانتهاكات التي يتعرّض لها الانسان، والحبيبةُ وطن. الحبّ هو ما يجعلنا نمتلك القدرة على العطاء والتضحية، ألم يحبّ الشهداء أوطانهم ليفتدوها بأرواحهم؟ ألم يحبّ المعتقلون أوطانهم ليفتدوها بسنواتٍ طويلةٍ من أعمارهم؟ القتل والتشريد والاعتقالات والمجازر هي حالة من حالات قتل الحبّ، وعليه فإننا نُعلن الحبّ نجمةً في عتمة الموت ونضيءُ بها دروبنا كي نؤسِّسَ للحرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق